كتب يزيد صايغ، كبير الباحثين في مركز كارنيجي للشرق الأوسط، أن سوريا بعد عام من سقوط نظام بشار الأسد لا تزال بلا خطة واضحة لإعادة الإعمار الاقتصادي، رغم أن حاجتها إليها أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. يحذّر صايغ من أن غياب تصور شامل لإعادة بناء الاقتصاد قد يعيد إنتاج شبكات المحسوبية التي هيمنت في عهد الأسد، ويقوّض العدالة الاجتماعية، ويزرع بذور اضطرابات جديدة، كما حدث خلال الحرب الطويلة.

 

تشير مؤسسة كارنيجي إلى أن الحكومة الجديدة في دمشق وقّعت مذكرات تفاهم وعقودًا بمليارات الدولارات مع جهات أجنبية، لكنها تفعل ذلك دون إطار وطني متكامل. تعتمد السلطات على مشروعات عقارية وتأجير أصول الدولة لتوليد عائد سريع، بينما تُهمَل القطاعات الإنتاجية التي يمكنها خلق فرص عمل واستقرار طويل الأمد. يفاقم غياب الشفافية في تفاصيل العقود وتسويات رجال الأعمال المقرّبين من النظام السابق ومصير أصول حزب البعث مناخ انعدام الثقة ويضعف جدوى الاستثمارات.

 

يصف صايغ هذا الوضع بالمفارقة، إذ كانت الحاجة إلى الإعمار واضحة منذ بدايات الحرب. ففي عام 2012 أطلقت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا أول مبادرة للتخطيط لما بعد الصراع، تلتها في العام التالي مبادرة “أصدقاء الشعب السوري” التي أنشأت صندوقًا لدعم التعافي. كما أعلنت دول الاتحاد الأوروبي استعدادها لتمويل جهود إعادة الإعمار، لكن هذه التعهدات بقيت حبيسة البيانات. بعد سقوط الأسد، تحوّل خطاب الاتحاد من “الإعمار” إلى “التعافي”، دون أي خطوات عملية.

 

تقدّر كلفة إعادة بناء البنية التحتية المدمَّرة والقطاعات الإنتاجية بمئات المليارات. ففي حين قدّرت الأمم المتحدة الكلفة بين 250 و400 مليار دولار عام 2019، قدّرها وزير الاقتصاد السوري في مايو 2025 بتريليون دولار، بينما وضع البنك الدولي “أفضل تقدير” عند 216 مليار دولار. يحتاج أكثر من نصف السكان، من لاجئين ونازحين، إلى إعادة توطين ودعم، فيما يعيش 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر. ومع أن رجال الأعمال السوريين يملكون أكثر من 100 مليار دولار في الخارج، لم تُسجَّل عودة تُذكر لرؤوس الأموال بسبب غياب الوضوح في السياسة الاقتصادية.

 

ورغم رفع العقوبات الأوروبية وتخصيص 175 مليون يورو لإعادة الإعمار المؤسسي والاقتصادي، ما تزال الجهود مشتتة. حتى الأمم المتحدة، التي أعلنت نيتها تحديث إطارها الشامل لسوريا، اكتفت بخطط “التعافي المبكر” دون تصور فعلي لإعادة الإعمار. كما أن الصناديق العربية والخليجية بقيت متحفظة على قيادة جهد موحّد، في ظل تحفظ دولي على التعامل مع حكومة تضم شخصيات من جماعات متطرفة سابقة.

 

يرى صايغ أن المشكلة أعمق من الحسابات السياسية، إذ تعكس انهيار النموذج الدولي للتنمية وإعادة الإعمار الذي فقد زخمه. ورغم إخفاقات ذلك النموذج، يؤكد الكاتب أن بعض مبادئه ما زالت أساسية، أبرزها ثلاثة: أولًا، بناء مؤسسات الدولة بطريقة متوازنة تدمج المركزية باللامركزية، حتى تلبّي احتياجات الفئات الهشة وتستعيد الثقة الشعبية. ثانيًا، إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في رسم السياسات الاقتصادية لضمان العدالة والاستقرار. ثالثًا، تحصين الحوكمة من هيمنة القوى السياسية والاقتصادية القوية، محلية كانت أو أجنبية، كي لا تتكرر أنماط الإقصاء والتهميش.

 

لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك. لم تبدأ الحكومة السورية بوضع خطة حقيقية، بل تعتمد مراسيم اقتصادية متفرقة ومشروعات غير مترابطة. بعض أصول الدولة تُخصخص في صفقات غامضة، بينما تُعاد هيكلة شركات عامة أظهرت نشاطًا جديدًا. مشروع قانون الضرائب الجديد يقلّص الضرائب على الشركات، ما يضعف قدرة الدولة على تمويل البنية التحتية ودعم القطاعات المنتجة. كما أعلنت السلطات أنها لن تقترض ولن ترفع الإيرادات، ما يجعلها رهينة المنح الخارجية.

 

ورغم الوعود بالإصلاح والانفتاح على الاستثمارات الخليجية والدولية، يظل الواقع الاقتصادي هشًا. تتكدّس 80 بالمئة من الشركات الجديدة في العاصمة، بينما تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتستمر المضاربات العقارية والفساد في استنزاف الموارد. يحذّر صايغ من أن اعتماد النظام الجديد على مشاريع عقارية ونقدية سريعة الربح قد يعيد تدوير اقتصاد المحسوبية بدل إعادة بنائه.

 

ويخلص إلى أن الإعمار الحقيقي لن يتحقق ما لم تُصغ دمشق خطة وطنية تشاركية تربط التنمية الاقتصادية بالعدالة الاجتماعية، وتضع أُسسًا لحوكمة شفافة قادرة على طيّ صفحة الحرب وبناء “سوريا جديدة” بحق.

 

https://carnegieendowment.org/middle-east/diwan/2025/10/syria-needs-a-reconstruction-plan?lang=en